فلسفة إنشاء البورصات وتطبيقاتها في العالم العربي
صفحة 1 من اصل 1
فلسفة إنشاء البورصات وتطبيقاتها في العالم العربي
ظهور البورصات وتطورها
ظهرت الحاجة للبورصات كنتيجة منطقية لصعود وتطور الرأسمالية وتوفر الإمكانية للتوسع في الأعمال بأكبر مما يتوفر لدى رجال الأعمال من رؤوس أموال، في عصر كان التوسع الرأسمالي فيه بالغ السرعة في ظل تواتر دخول العديد من بلدان العالم إلى مرحلة التطور الرأسمالي.
وكان رجال الأعمال في بداية عصر النهوض الرأسمالي أو ما سمي بعصر الرأسمالية التجارية، يحصلون على التمويل الضروري لأعمالهم من خلال المقرضين الربويين، ويقومون بتحميل الفائدة الربوية على أسعار السلع التي يبيعونها لينقلوا وطأتها الثقيلة إلى المستهلكين. وكان قسم مهم من هؤلاء المقرضين الربويين من اليهود مما خلق موقفا سلبيا إزاءهم في المجتمعات الغربية، سواء من رجال الأعمال المقترضين منهم بفائدة باهظة، أو من المستهلكين الذين يعانون في النهاية من ارتفاع الأسعار بسبب الفوائد الربوية.
لكن توافر المدخرات نتيجة التطور الاقتصادي الذي تسارعت وتيرته في بداية عصر النهوض الرأسمالي، وتراكم الثروات المنزوحة من المستعمرات لدى فئات ليس لديها خبرات استثمارية بالذات من البيروقراطية الحكومية والعسكرية، أديا إلى ظهور وتطور البنوك التي قضت على المرابين وفوائدهم الربوية الباهظة.
لكن الفوائد البنكية كانت تتحول إلى عبء ثقيل على رجال الأعمال المقترضين، عندما تحدث أزمة اقتصادية في أي فرع أو قطاع أو في الاقتصاد بأسره.
كما أن أزمات التباطؤ أو الركود الاقتصادي كانت تؤدي لتراجع أسعار الفائدة بصورة تؤدي لتفضيل المودعين سحب أموالهم بما يقلل المدخرات المتاحة لتمويل الاستثمارات. كما أن سهولة انهيار البنوك قبل إنشاء البنوك المركزية، كان يجعل الإيداع في البنوك مخاطرة لا تقل كثيرا عن المخاطرة بالمشاركة في أي استثمار.
ونتيجة لكل ذلك ظهر شكل آخر من أشكال استثمار الأموال لصغار ومتوسطي المستثمرين عبارة عن نوع من المشاركة مع رجال الأعمال الذين يقومون بالاقتراض وإنشاء الشركات.
وكانت اتفاقات المشاركة والحصول على قسم من أسهم بعض الشركات تتم في منتديات ومقاهي وأسواق التجار ورجال الأعمال التي تحولت بعد ذلك إلى البورصات. وبدأت عمليات واسعة لهذا النوع من المشاركة التي كانت أقرب ما تكون لشركات توظيف الأموال التي لا يعرف حملة الأسهم، الكثير عما يدور داخلها.
وقد استغل المغامرون هذا النمط من المشاركة غير الخاضعة لضوابط صارمة تمنع التحايل وتضمن حقوق حملة الأسهم، في جمع أموال صغار ومتوسطي المستثمرين والهروب بها أو تبديدها وإهدارها مما كان يؤدي لهزات عنيفة في البورصات الناشئة. وبناء على الخبرة التاريخية بدأت بورصات العالم في وضع الضوابط وتطويرها لحماية حملة الأسهم ولحماية النظام الرأسمالي نفسه من الانهيار، خاصة وأنه أصبح شيئا فشيئا قائما على الشركات المساهمة بدلا من الشركات الفردية والعائلية التي ميزت بداياته الأولى.
أهمية ودور البورصات
تتركز الوظائف الأساسية للبورصة في توفير السيولة للمستثمرين بصورة تمكنهم من إنشاء مشروعات جديدة أو توسيع مشروعات قائمة، بما يساعد على استنهاض الاستثمارات ورفع معدل الاستثمار الذي يعد المحرك الأكثر أهمية للنمو الاقتصادي. كما أن الحركة في البورصة تؤدي لرفع كفاءة تخصيص الموارد.
كذلك فإن البورصات تقوم بدور مهم في توفير السيولة للحكومات أيضا، من خلال ما تطرحه من سندات وأذون للخزانة فيها. كما اعتمد الكثير من الحكومات التي اتجهت لخصخصة القطاع العام، على البورصة في تنفيذ برنامج الخصخصة أو قسم كبير منه على الأقل.
وتنحصر عمليات التعامل في البورصة، في البيع والشراء والاحتفاظ بالأسهم والسندات. وتتم عمليات الشراء من خلال شركات الوساطة المالية. كما تطورت الخدمات التكميلية في البورصات من خلال شركات المقاصة والحفظ المركزي. وتوجد في البورصات الأكثر تطورا، شركات صانعة للأسواق مهمتها حفظ التوازن في البورصة.
وتقوم كل عمليات التعامل في البورصة على التوقعات المستقبلية، ولذلك فإن أي تلاعب أو إشاعات أو تقديرات حقيقية بشأن مستقبل الشركات المدرجة في البورصة أو مستقبل السياسات الاقتصادية، تؤثر بشدة في حركة أسعار الأسهم والسندات. وتعد الشائعات الموجهة وعمليات التلاعب جزءا حاضرا دائما في كل البورصات، لكن البورصات الأكثر احتراما لصغار ومتوسطي المستثمرين فيها، تقوم بتطوير إطارها القانوني لتغليظ العقوبات على عمليات التحايل لضمان حقوق صغار ومتوسطي المستثمرين.
ومن الضروري أن تكون هناك جهة رقابية مستقلة لمراقبة البورصة ومنع التلاعب فيها، وهذه الجهة الرقابية يجب أن تكون ذات طابع قومي وليس حكومي، وذلك من خلال تمثيل الخبراء الحقيقيين من كل الاتجاهات السياسية فيها، حتى تستطيع أن تقوم بدور رقابي حقيقي لا تقيده اعتبارات الملائمة السياسية كما يحدث في الكثير من البورصات العربية بالذات.
انتعاش وهبوط البورصة
وإذا كان الأداء المالي للشركات المدرجة في البورصة يشكل عاملا حاسما في تحديد حركة أسعار الأسهم، فإن حركة أسعار الفائدة تؤثر بدورها في حركة البورصات والأسهم المدرجة فيها، إذ تنتعش البورصة كلما انخفضت أسعار الفائدة.
وتتأثر البورصات بحركة المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء الاقتصاد مثل مؤشرات النمو والبطالة والتضخم، كما تتأثر بالعجز أو الفائض في الموازين الداخلية والخارجية. كما تتأثر البورصات بالعوامل الأمنية والسياسية، إذ تشكل البيئة السياسية والأمنية المستقرة مناخا ملائما لتطور البورصات، بينما تعتبر البيئات المضطربة مدمرة للبورصات، وذلك ببساطة لأن التوقعات المالية تكون صعبة ومضطربة في البيئات غير المستقرة سياسيا وأمنيا.
البورصات العربية.. النشأة والتحرير
نقلت تجربة البورصات من الاقتصادات الرأسمالية الصناعية المتقدمة إلى البلدان العربية خلال العهد الاستعماري، وكانت مكرسة في البداية لتحديد أسعار سلع أولية وأسعار أسهم الشركات المتعاملة فيها كما كان الحال في مصر، لكنها تجاوزت هذا الأمر مع تطور القطاع الصناعي والخدمي في الاقتصادات العربية، وأصبحت تقوم بأدوار شبيهة لدورها في الاقتصادات الغربية وإن بمستوى مختلف من الفعالية والكفاءة.
وتعد البورصة المصرية هي أقدم بورصة عربية، وهي واحدة من أقدم بورصات العالم بأسره، حيث تم إنشاء بورصة الإسكندرية عام 1883، ثم تبعتها بورصة القاهرة عام 1890.
لكن هذه البورصة القديمة والكبيرة تعرضت لضربة كبيرة بعد إجراءات تمصير البنوك وشركات التأمين والوكالات التجارية عام 1957، ثم قرارات التأميم في بداية ستينيات القرن الماضي، لكنها عادت للانتعاش في تسعينيات القرن العشرين على ضوء تحريرها وتنفيذ قسم مهم من برنامج الخصخصة فيها.
وقد تطورت البورصات وأسواق الأسهم العربية على نحو خاص منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في ظل موجة التحرر الاقتصادي التي اجتاحت العالم منذ ذلك التاريخ. وخلافا للجدل الدائم حول شرعية أو عدم شرعية الفوائد المصرفية من المنظور الديني، فإن هناك اتفاقا بين رجال الدين على شرعية الاستثمار في البورصة على أساس أنه نوع من المشاركة التي لا تحدد نتيجتها سلفا.
وإن كان الاقتصاد ينبغي أن يدار على أسس الكفاءة والعدل والحق، بعيدا عن أي غطاء أيديولوجي ديني إسلامي أو مسيحي لأنه ليس مهما أن تكون القطة سوداء أو بيضاء ولكن المهم أن تصطاد الفئران كما يقول المثل الصيني الشهير.
وقد وقعت بعض الدول العربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية على اتفاقية تحرير الخدمات المالية والتأمينية عام 1997، بما يعني التزامها بفتح أسواقها أمام الشركات الأجنبية، وهو ما جعل الأسواق المالية مفتوحة أمام التدفقات الرأسمالية الأجنبية للاستثمارات الحافظة في بعض الدول العربية (مصر والمغرب وقطر والاردن والبحرين وتونس).
ومن الضروري الإشارة إلى أن انفتاح البورصات العربية أمام المستثمرين الأجانب يرجح احتمال حدوث أزمات مالية في هذه البورصات، ذلك أن أخطر ما يواجه البورصات المنفتحة علي الاستثمار الأجنبي هو أن تصبح مسرحا لحركة الأموال الساخنة والمضاربين كما حدث عام 1997 في دول جنوب شرق آسيا وروسيا والمكسيك والبرازيل، وهو ما لا يمكن تفاديه ما لم تكن هناك ضوابط لضمان تحول الاستثمارات الأجنبية في البورصات العربية إلي استثمارات متوسطة وطويلة الأجل تساهم في تمويل الاستثمارات بدلا من بقائها أموالا ساخنة سريعة الحركة تثير الاضطراب في البورصة وتؤدي إلى نزح الأموال من الاقتصاد الوطني إلى الخارج.
أما بالنسبة للعلاقات بين البورصات العربية وبعضها البعض، فإنها بدأت بتبادل تسجيل الأوراق المالية للشركات العربية بين بعض البورصات العربية التي دخلت في اتحاد البورصات وأسواق المال العربية، ثم تلاها الربط بين البورصات العربية وتوقيع اتفاقيات للتعاون بين شركات المقاصة والوساطة في تلك البورصات.
وبالرغم من قدم بعض البورصات العربية وحداثة البعض الآخر، فإنها تشترك جميعا في محدودية دورها في تمويل الاستثمار الجديد والنمو في الاقتصادات العربية. وحتى في الوقت الحاضر فإن أكبر عمليات المشاركة كانت عبارة عن شراء لأصول عامة قائمة فعليا ومطروحة للخصخصة، وليس اكتتابات لبناء مشروعات جديدة.
وهذه الاكتتابات الجديدة هي التي يمكن أن تطور البورصات، وهي أيضا التي يمكنها أن تؤدي لتطوير الاقتصاد العيني بشكل سريع ومتوازن مع نمو الطلب على الأسهم في البورصات العربية.
البورصات العربية.. الاضطراب سيد الموقف
أدت زيادة الثروات العامة والشخصية في الدول العربية المصدرة للنفط نتيجة ارتفاع أسعار النفط وإيراداتها من تصديره إلى تفاقم حالة الاقتصادات البالونية أو اقتصادات الفقاعة القابلة للانفجار، حيث تم توظيف قسم كبير من هذه الأموال في البورصة وفي شراء الأراضي والعقارات والمعادن النفيسة بدلا من استثمارها في تمويل بناء مشروعات حقيقية ومنتجة في الاقتصاد العيني.
وإزاء عدم توازي الاستثمارات الجديدة مع الزيادة في حجم الطلب على الأسهم، فإن انهيار الأسهم يصبح واقعا لا محالة، كما أن ركود قطاع العقارات ولو بعد حين يكون بدوره أمرا مرجحا.
وقد حدث بالفعل وانهارت أسعار الأسهم في العديد من البورصات العربية في البلدان المصدرة للنفط بالذات. والغريب حقا أن البحث حول أسباب هذه الانهيارات والحلول التي قدمت لمواجهتها، كانت غالبا في الطريق الخطأ.
ففي بعض البلدان بدا الأمر وكأن الأزمة تكمن في توفير المزيد من الطلب على الأسهم مما استدعى السماح للمقيمين من غير أبناء البلد الأصليين بالاستثمار في الأسهم في بلد كبير مثل السعودية، وخفض الضرائب على الأرباح المحققة في البورصة من 45% إلى 20% لإتاحة المزيد من السيولة للمستثمرين ولتشجيع المزيد من المستثمرين على استثمار أموالهم في البورصة، رغم أن الأزمة عكسية تماما وتتمثل في وفرة الأموال التي أدت لارتفاع أسعار الأسهم بصورة مبالغ فيها مما أدى لانهيار الأسعار بعد موجات من الصعود غير المنطقي، وعادت الأسعار لمستوياتها قبل عامين، ثم حدثت حالة من التذبذب العنيف لأسعار الأسهم في ظل انعدام الثقة واليقين بشأن المستقبل.
كما تعامل الجميع تقريبا على أن رؤساء هيئات سوق المال هم المسؤولون عن أزمة البورصات العربية، وفي بلدان أخرى تمت مساءلة وزراء المالية.
والحقيقة أن الأمر يتجاوزهم جميعا، لأنه ببساطة يتعلق بالإستراتيجية الاقتصادية للدولة والمجتمع، هذا إذا كانت هناك إستراتيجية اقتصادية فعليا تتمثل في خطة لتوظيف الإيرادات النفطية والمدخرات العامة والخاصة في مشروعات صناعية وزراعية وخدمية ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وتطوير قدرة الاقتصاد على النمو الذاتي المتواصل بغض النظر عن حركة أسعار النفط التي ما تزال حاكمة في تحديد اتجاه غالبية الاقتصادات العربية.
إن مثل هذه الإستراتيجية تعني في الواقع أن المدخرات سيتم توظيفها في تمويل الاستثمارات الجديدة التي ستستوعب التدفقات المالية للبورصة بدون مشاكل جوهرية.
لكن لو نظرنا إلى معدلات الادخار ومعدلات الاستثمار في الدول العربية المصدرة للنفط سنجد فجوة مذهلة نتيجتها الطبيعية هي نزوح الأموال للخارج، أو المضاربة على الأسهم والعقارات والوصول بأسعارها لمستويات مبالغ فيها للغاية تجعلها مرشحة للانهيار في أي لحظة.
وعلى سبيل المثال فإن معدل الادخار في السعودية بلغ 42% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2003، وبلغ معدل الاستثمار 19% في العام نفسه. وفي عمان بلغ معدل الادخار 34% وبلغ معدل الاستثمار 16% في العام المذكور. أما في الكويت فقد بلغ معدل الادخار نحو 18%، وبلغ معدل الاستثمار نحو 9%. وحتى في الجزائر وهي صاحبة أعلى معدل للاستثمار في الدول العربية منذ عدة سنوات، فإن معدل الادخار فيها بلغ نحو 45% عام 2003، في حين بلغ معدل الاستثمار فيها نحو 30% في العام نفسه.
وهذه الفجوة تعني أن هناك أموالا هائمة يتجه جانب كبير منها في العادة إلى أسواق الأسهم ويثير فيها الاضطراب، خاصة في ظل ضعف هذه الأسواق وعدم قدرتها على امتصاص هذه الأموال من خلال اكتتابات لمشروعات جديدة أو لتمويل التوسعات في المشروعات القائمة.
ويمكن القول في النهاية إن حل الأزمة الراهنة في البورصات العربية يكمن في التوسع في الاستثمار العيني لمواجهة الطلب المحلي وأيضا للتصدير، وهذا التوسع الاستثماري سيمكنه استيعاب فوائض رؤوس الأموال الهائمة في البورصات العربية والتي تثير الاضطراب فيها، وستظل تفعل ذلك ما لم يكن هناك توازن حقيقي بين نمو الاقتصاد العيني الحقيقي والاقتصاد الرمزي في البورصة.
ظهرت الحاجة للبورصات كنتيجة منطقية لصعود وتطور الرأسمالية وتوفر الإمكانية للتوسع في الأعمال بأكبر مما يتوفر لدى رجال الأعمال من رؤوس أموال، في عصر كان التوسع الرأسمالي فيه بالغ السرعة في ظل تواتر دخول العديد من بلدان العالم إلى مرحلة التطور الرأسمالي.
وكان رجال الأعمال في بداية عصر النهوض الرأسمالي أو ما سمي بعصر الرأسمالية التجارية، يحصلون على التمويل الضروري لأعمالهم من خلال المقرضين الربويين، ويقومون بتحميل الفائدة الربوية على أسعار السلع التي يبيعونها لينقلوا وطأتها الثقيلة إلى المستهلكين. وكان قسم مهم من هؤلاء المقرضين الربويين من اليهود مما خلق موقفا سلبيا إزاءهم في المجتمعات الغربية، سواء من رجال الأعمال المقترضين منهم بفائدة باهظة، أو من المستهلكين الذين يعانون في النهاية من ارتفاع الأسعار بسبب الفوائد الربوية.
لكن توافر المدخرات نتيجة التطور الاقتصادي الذي تسارعت وتيرته في بداية عصر النهوض الرأسمالي، وتراكم الثروات المنزوحة من المستعمرات لدى فئات ليس لديها خبرات استثمارية بالذات من البيروقراطية الحكومية والعسكرية، أديا إلى ظهور وتطور البنوك التي قضت على المرابين وفوائدهم الربوية الباهظة.
لكن الفوائد البنكية كانت تتحول إلى عبء ثقيل على رجال الأعمال المقترضين، عندما تحدث أزمة اقتصادية في أي فرع أو قطاع أو في الاقتصاد بأسره.
كما أن أزمات التباطؤ أو الركود الاقتصادي كانت تؤدي لتراجع أسعار الفائدة بصورة تؤدي لتفضيل المودعين سحب أموالهم بما يقلل المدخرات المتاحة لتمويل الاستثمارات. كما أن سهولة انهيار البنوك قبل إنشاء البنوك المركزية، كان يجعل الإيداع في البنوك مخاطرة لا تقل كثيرا عن المخاطرة بالمشاركة في أي استثمار.
ونتيجة لكل ذلك ظهر شكل آخر من أشكال استثمار الأموال لصغار ومتوسطي المستثمرين عبارة عن نوع من المشاركة مع رجال الأعمال الذين يقومون بالاقتراض وإنشاء الشركات.
وكانت اتفاقات المشاركة والحصول على قسم من أسهم بعض الشركات تتم في منتديات ومقاهي وأسواق التجار ورجال الأعمال التي تحولت بعد ذلك إلى البورصات. وبدأت عمليات واسعة لهذا النوع من المشاركة التي كانت أقرب ما تكون لشركات توظيف الأموال التي لا يعرف حملة الأسهم، الكثير عما يدور داخلها.
وقد استغل المغامرون هذا النمط من المشاركة غير الخاضعة لضوابط صارمة تمنع التحايل وتضمن حقوق حملة الأسهم، في جمع أموال صغار ومتوسطي المستثمرين والهروب بها أو تبديدها وإهدارها مما كان يؤدي لهزات عنيفة في البورصات الناشئة. وبناء على الخبرة التاريخية بدأت بورصات العالم في وضع الضوابط وتطويرها لحماية حملة الأسهم ولحماية النظام الرأسمالي نفسه من الانهيار، خاصة وأنه أصبح شيئا فشيئا قائما على الشركات المساهمة بدلا من الشركات الفردية والعائلية التي ميزت بداياته الأولى.
أهمية ودور البورصات
تتركز الوظائف الأساسية للبورصة في توفير السيولة للمستثمرين بصورة تمكنهم من إنشاء مشروعات جديدة أو توسيع مشروعات قائمة، بما يساعد على استنهاض الاستثمارات ورفع معدل الاستثمار الذي يعد المحرك الأكثر أهمية للنمو الاقتصادي. كما أن الحركة في البورصة تؤدي لرفع كفاءة تخصيص الموارد.
كذلك فإن البورصات تقوم بدور مهم في توفير السيولة للحكومات أيضا، من خلال ما تطرحه من سندات وأذون للخزانة فيها. كما اعتمد الكثير من الحكومات التي اتجهت لخصخصة القطاع العام، على البورصة في تنفيذ برنامج الخصخصة أو قسم كبير منه على الأقل.
وتنحصر عمليات التعامل في البورصة، في البيع والشراء والاحتفاظ بالأسهم والسندات. وتتم عمليات الشراء من خلال شركات الوساطة المالية. كما تطورت الخدمات التكميلية في البورصات من خلال شركات المقاصة والحفظ المركزي. وتوجد في البورصات الأكثر تطورا، شركات صانعة للأسواق مهمتها حفظ التوازن في البورصة.
وتقوم كل عمليات التعامل في البورصة على التوقعات المستقبلية، ولذلك فإن أي تلاعب أو إشاعات أو تقديرات حقيقية بشأن مستقبل الشركات المدرجة في البورصة أو مستقبل السياسات الاقتصادية، تؤثر بشدة في حركة أسعار الأسهم والسندات. وتعد الشائعات الموجهة وعمليات التلاعب جزءا حاضرا دائما في كل البورصات، لكن البورصات الأكثر احتراما لصغار ومتوسطي المستثمرين فيها، تقوم بتطوير إطارها القانوني لتغليظ العقوبات على عمليات التحايل لضمان حقوق صغار ومتوسطي المستثمرين.
ومن الضروري أن تكون هناك جهة رقابية مستقلة لمراقبة البورصة ومنع التلاعب فيها، وهذه الجهة الرقابية يجب أن تكون ذات طابع قومي وليس حكومي، وذلك من خلال تمثيل الخبراء الحقيقيين من كل الاتجاهات السياسية فيها، حتى تستطيع أن تقوم بدور رقابي حقيقي لا تقيده اعتبارات الملائمة السياسية كما يحدث في الكثير من البورصات العربية بالذات.
انتعاش وهبوط البورصة
وإذا كان الأداء المالي للشركات المدرجة في البورصة يشكل عاملا حاسما في تحديد حركة أسعار الأسهم، فإن حركة أسعار الفائدة تؤثر بدورها في حركة البورصات والأسهم المدرجة فيها، إذ تنتعش البورصة كلما انخفضت أسعار الفائدة.
وتتأثر البورصات بحركة المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء الاقتصاد مثل مؤشرات النمو والبطالة والتضخم، كما تتأثر بالعجز أو الفائض في الموازين الداخلية والخارجية. كما تتأثر البورصات بالعوامل الأمنية والسياسية، إذ تشكل البيئة السياسية والأمنية المستقرة مناخا ملائما لتطور البورصات، بينما تعتبر البيئات المضطربة مدمرة للبورصات، وذلك ببساطة لأن التوقعات المالية تكون صعبة ومضطربة في البيئات غير المستقرة سياسيا وأمنيا.
البورصات العربية.. النشأة والتحرير
نقلت تجربة البورصات من الاقتصادات الرأسمالية الصناعية المتقدمة إلى البلدان العربية خلال العهد الاستعماري، وكانت مكرسة في البداية لتحديد أسعار سلع أولية وأسعار أسهم الشركات المتعاملة فيها كما كان الحال في مصر، لكنها تجاوزت هذا الأمر مع تطور القطاع الصناعي والخدمي في الاقتصادات العربية، وأصبحت تقوم بأدوار شبيهة لدورها في الاقتصادات الغربية وإن بمستوى مختلف من الفعالية والكفاءة.
وتعد البورصة المصرية هي أقدم بورصة عربية، وهي واحدة من أقدم بورصات العالم بأسره، حيث تم إنشاء بورصة الإسكندرية عام 1883، ثم تبعتها بورصة القاهرة عام 1890.
لكن هذه البورصة القديمة والكبيرة تعرضت لضربة كبيرة بعد إجراءات تمصير البنوك وشركات التأمين والوكالات التجارية عام 1957، ثم قرارات التأميم في بداية ستينيات القرن الماضي، لكنها عادت للانتعاش في تسعينيات القرن العشرين على ضوء تحريرها وتنفيذ قسم مهم من برنامج الخصخصة فيها.
وقد تطورت البورصات وأسواق الأسهم العربية على نحو خاص منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في ظل موجة التحرر الاقتصادي التي اجتاحت العالم منذ ذلك التاريخ. وخلافا للجدل الدائم حول شرعية أو عدم شرعية الفوائد المصرفية من المنظور الديني، فإن هناك اتفاقا بين رجال الدين على شرعية الاستثمار في البورصة على أساس أنه نوع من المشاركة التي لا تحدد نتيجتها سلفا.
وإن كان الاقتصاد ينبغي أن يدار على أسس الكفاءة والعدل والحق، بعيدا عن أي غطاء أيديولوجي ديني إسلامي أو مسيحي لأنه ليس مهما أن تكون القطة سوداء أو بيضاء ولكن المهم أن تصطاد الفئران كما يقول المثل الصيني الشهير.
وقد وقعت بعض الدول العربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية على اتفاقية تحرير الخدمات المالية والتأمينية عام 1997، بما يعني التزامها بفتح أسواقها أمام الشركات الأجنبية، وهو ما جعل الأسواق المالية مفتوحة أمام التدفقات الرأسمالية الأجنبية للاستثمارات الحافظة في بعض الدول العربية (مصر والمغرب وقطر والاردن والبحرين وتونس).
ومن الضروري الإشارة إلى أن انفتاح البورصات العربية أمام المستثمرين الأجانب يرجح احتمال حدوث أزمات مالية في هذه البورصات، ذلك أن أخطر ما يواجه البورصات المنفتحة علي الاستثمار الأجنبي هو أن تصبح مسرحا لحركة الأموال الساخنة والمضاربين كما حدث عام 1997 في دول جنوب شرق آسيا وروسيا والمكسيك والبرازيل، وهو ما لا يمكن تفاديه ما لم تكن هناك ضوابط لضمان تحول الاستثمارات الأجنبية في البورصات العربية إلي استثمارات متوسطة وطويلة الأجل تساهم في تمويل الاستثمارات بدلا من بقائها أموالا ساخنة سريعة الحركة تثير الاضطراب في البورصة وتؤدي إلى نزح الأموال من الاقتصاد الوطني إلى الخارج.
أما بالنسبة للعلاقات بين البورصات العربية وبعضها البعض، فإنها بدأت بتبادل تسجيل الأوراق المالية للشركات العربية بين بعض البورصات العربية التي دخلت في اتحاد البورصات وأسواق المال العربية، ثم تلاها الربط بين البورصات العربية وتوقيع اتفاقيات للتعاون بين شركات المقاصة والوساطة في تلك البورصات.
وبالرغم من قدم بعض البورصات العربية وحداثة البعض الآخر، فإنها تشترك جميعا في محدودية دورها في تمويل الاستثمار الجديد والنمو في الاقتصادات العربية. وحتى في الوقت الحاضر فإن أكبر عمليات المشاركة كانت عبارة عن شراء لأصول عامة قائمة فعليا ومطروحة للخصخصة، وليس اكتتابات لبناء مشروعات جديدة.
وهذه الاكتتابات الجديدة هي التي يمكن أن تطور البورصات، وهي أيضا التي يمكنها أن تؤدي لتطوير الاقتصاد العيني بشكل سريع ومتوازن مع نمو الطلب على الأسهم في البورصات العربية.
البورصات العربية.. الاضطراب سيد الموقف
أدت زيادة الثروات العامة والشخصية في الدول العربية المصدرة للنفط نتيجة ارتفاع أسعار النفط وإيراداتها من تصديره إلى تفاقم حالة الاقتصادات البالونية أو اقتصادات الفقاعة القابلة للانفجار، حيث تم توظيف قسم كبير من هذه الأموال في البورصة وفي شراء الأراضي والعقارات والمعادن النفيسة بدلا من استثمارها في تمويل بناء مشروعات حقيقية ومنتجة في الاقتصاد العيني.
وإزاء عدم توازي الاستثمارات الجديدة مع الزيادة في حجم الطلب على الأسهم، فإن انهيار الأسهم يصبح واقعا لا محالة، كما أن ركود قطاع العقارات ولو بعد حين يكون بدوره أمرا مرجحا.
وقد حدث بالفعل وانهارت أسعار الأسهم في العديد من البورصات العربية في البلدان المصدرة للنفط بالذات. والغريب حقا أن البحث حول أسباب هذه الانهيارات والحلول التي قدمت لمواجهتها، كانت غالبا في الطريق الخطأ.
ففي بعض البلدان بدا الأمر وكأن الأزمة تكمن في توفير المزيد من الطلب على الأسهم مما استدعى السماح للمقيمين من غير أبناء البلد الأصليين بالاستثمار في الأسهم في بلد كبير مثل السعودية، وخفض الضرائب على الأرباح المحققة في البورصة من 45% إلى 20% لإتاحة المزيد من السيولة للمستثمرين ولتشجيع المزيد من المستثمرين على استثمار أموالهم في البورصة، رغم أن الأزمة عكسية تماما وتتمثل في وفرة الأموال التي أدت لارتفاع أسعار الأسهم بصورة مبالغ فيها مما أدى لانهيار الأسعار بعد موجات من الصعود غير المنطقي، وعادت الأسعار لمستوياتها قبل عامين، ثم حدثت حالة من التذبذب العنيف لأسعار الأسهم في ظل انعدام الثقة واليقين بشأن المستقبل.
كما تعامل الجميع تقريبا على أن رؤساء هيئات سوق المال هم المسؤولون عن أزمة البورصات العربية، وفي بلدان أخرى تمت مساءلة وزراء المالية.
والحقيقة أن الأمر يتجاوزهم جميعا، لأنه ببساطة يتعلق بالإستراتيجية الاقتصادية للدولة والمجتمع، هذا إذا كانت هناك إستراتيجية اقتصادية فعليا تتمثل في خطة لتوظيف الإيرادات النفطية والمدخرات العامة والخاصة في مشروعات صناعية وزراعية وخدمية ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وتطوير قدرة الاقتصاد على النمو الذاتي المتواصل بغض النظر عن حركة أسعار النفط التي ما تزال حاكمة في تحديد اتجاه غالبية الاقتصادات العربية.
إن مثل هذه الإستراتيجية تعني في الواقع أن المدخرات سيتم توظيفها في تمويل الاستثمارات الجديدة التي ستستوعب التدفقات المالية للبورصة بدون مشاكل جوهرية.
لكن لو نظرنا إلى معدلات الادخار ومعدلات الاستثمار في الدول العربية المصدرة للنفط سنجد فجوة مذهلة نتيجتها الطبيعية هي نزوح الأموال للخارج، أو المضاربة على الأسهم والعقارات والوصول بأسعارها لمستويات مبالغ فيها للغاية تجعلها مرشحة للانهيار في أي لحظة.
وعلى سبيل المثال فإن معدل الادخار في السعودية بلغ 42% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2003، وبلغ معدل الاستثمار 19% في العام نفسه. وفي عمان بلغ معدل الادخار 34% وبلغ معدل الاستثمار 16% في العام المذكور. أما في الكويت فقد بلغ معدل الادخار نحو 18%، وبلغ معدل الاستثمار نحو 9%. وحتى في الجزائر وهي صاحبة أعلى معدل للاستثمار في الدول العربية منذ عدة سنوات، فإن معدل الادخار فيها بلغ نحو 45% عام 2003، في حين بلغ معدل الاستثمار فيها نحو 30% في العام نفسه.
وهذه الفجوة تعني أن هناك أموالا هائمة يتجه جانب كبير منها في العادة إلى أسواق الأسهم ويثير فيها الاضطراب، خاصة في ظل ضعف هذه الأسواق وعدم قدرتها على امتصاص هذه الأموال من خلال اكتتابات لمشروعات جديدة أو لتمويل التوسعات في المشروعات القائمة.
ويمكن القول في النهاية إن حل الأزمة الراهنة في البورصات العربية يكمن في التوسع في الاستثمار العيني لمواجهة الطلب المحلي وأيضا للتصدير، وهذا التوسع الاستثماري سيمكنه استيعاب فوائض رؤوس الأموال الهائمة في البورصات العربية والتي تثير الاضطراب فيها، وستظل تفعل ذلك ما لم يكن هناك توازن حقيقي بين نمو الاقتصاد العيني الحقيقي والاقتصاد الرمزي في البورصة.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى